ورقه خريف

 تشبه رحلة ورقة الخريف. صمود، مكابدة، وفي النهاية أمل في دورة جديدة. كتبتُ هذه التأملات لأنني أؤمن أن فهم هذه الرحلة هو أساس النجاح.


​لا تبحثوا لنا عن أسماء فنحن كلنا عباد وأرقام. عباد لسلعة الحياة تجوب بنا الأسواقَ، ولا ندري في أي حانة أو أي سوق يكون المبيع. فبات الإنسانُ ضعيفاً ضعف ورقة الخريف، التي تبدو متماسكة على غصنها متشبّثةً به.

​فتغدو الرياحُ جاهدةً في إسقاطها، وتتأرجح الورقة وهي تَعيَا، ولا أحد يساعدها. فلا الريح تخف وتَحنو على رِقّتها، ولا الغصن يمد يده ويَحنو عليها. فيظل الغصن مكتفياً بالثبات مكانه، قائلاً: „إن ثبتِّ فهو لكِ، وإلا فاسقطي، فحولي ورقٌ كثير“.

​فتقاومُ الورقةُ لتبقى خضراءَ، وليس لها غير الغصن غذاء. لكن أَيُجْعَلُ الداءُ بالدواءِ؟ كي تأكل وتشرب، وتحتسي مرارة البقاء على غصن تخلَّى. فَتَمُر عليها فصول كثيرة، وفي كل عمرها تنتظرُ نسمة الهواء التي تداعبها بهدوءٍ دون عصفٍ ورعودٍ، كأنها أرجوحتها التي تزيل عنها بللَ الشتاء وجفافَ الصيف. ويا خوفها لو جاءتها هذه النسمات بعد الذبول، وليس لخُضَارِ عودها أفول، فلا فرحَ به ولا قبول، فقد رحل ما كان بخاطرها يجولُ.

​ويسأل أحدهم: لماذا يعقبُ الربيعُ الشتاءَ؟ لماذا جعلَ اللهُ بعد مطرٍ وعناءٍ وغيابِ شمسٍ وسوادِ ليلٍ، قوسَ قزحٍ وقمرٍ؟ أَصُدفةٌ؟ لا أظن، وتستحيل الصدفة في قوانين الله. فهي يدٌ من أيادي بشائرهِ للعباد. „تحملوا أطولَ فصلٍ من العمر، ولا بد بعده من ربيع“. ولكن هل هو عند الكل أطول فصل أم ماذا؟…

​وتبقى الورقة تحتمل وتتماسك، متباهيةً بخُضارها، ويتغنى بها المارون، ويتفيّأُ تحت ظلها العاشقون. وهي تقول: „فيا ليت شعري لو تُلاحظني الجفونُ لترى أدمعي وترحمَ عيوني، فلستُ بجمالي أزهو، فإنَّ ما بي قد قَلَّ عنه احتمالي“.

​فلا يزال أحدنا متعلقاً بغصنه لآخر لحظة مُكابداً دنياه. وفي وقت الغروب، بعد الاصفرار والشحوب، يودع نجمه الذي يحب، وقطرة الندى التي تُعاودُ حنانها كل صباح. ويودع غصناً حمله دون شكوى، ويبعث اللهُ تلك النسمات، أو ربما ليست نسمات بل هي ضربات هواء عنيف لا تشعرُ بها إلا تلك الورقة المُصْفَرّة. فتقاومُ الضربة الأولى، الثانية. فما تكاد تأتي الثالثة حتى تتهاوى الورقة على أمواج الهواء، تاركةً غصنها الذي طالما استقتْ منه وأخذَ من نضرتها وبهائها ثمناً للغذاء، تاركةً مكانها لبرعمٍ جديدٍ، تاركةً كل شيء.

​وتظلُّ تتهاوى إلى أن تصلَ إلى الأرض التي كانت تظن نفسها أعلى منها وأسمى، وتُدفنُ تحتَ حبيباتِ رملٍ أو تراب. وإن كانت سعيدة، لا تدوسها الأقدامُ فتُفَتّتَ ضلوعها التي لطالما أمتعتهم بيُنعها وخضارها وجلبت لهم الأملَ والظلَّ. فأيٌّ وأيُّ كلامٍ يُقال، وأيُّ عزاءٍ يواسيها ويُبلّلُ حُرقةَ ما فيها. فقد مضى منها الشبابُ، وذهبَ عنها الأهلُ والأحبابُ، والآن لا عودةَ ولا إيابَ.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نسبيةُ الوجود: شروقٌ يَبني وشروقٌ يَهدم

تأثير الكوبرا.. حين تُصبح الحلول جرحًا في ناصية القلب

الوعي غير المُفعَّل: صراع الإدراك وفخ العادة