​على قيد الإنسانية: عبء الذبذبات غير المرئية


​بظنِّ أحدهم أنه يقول كلمة وتمضي، ولا يعلم أن لهذه الكلمة ذبذبات كذبذبات الأشعة غير المرئية. فينسى القائل ما قال، وتظل تراكمات هذه الذبذبات في نفس السامع.

​فيصبح السامع بين خيارين: إما أن يسامح (وهو التسامي) ويطوي صفحة الألم، فيختار الحرية الداخلية والتخلص من ثقل الحقد. أو أن يغفرها دون نسيان، فيحتفظ بمرارة الذكرى، ويقع فريسة للحِقد (وهو التقوقع)، فتتآكل روحه من الداخل، ويبقى أسيراً للكلمة، بينما القائل قد مضى وكأنه لم يكن.

​وهنا يتجلى جوهر الإنسانية؛ فـ الكلمة مسؤولية، والنسيان نعمة، والمسامحة قوة يمنحها المرء لنفسه أولاً قبل أن يمنحها للآخر.

​لماذا نحمل أنفسنا هذه الأعباء؟

​فلماذا نحمل أنفسنا هذه الأعباء؟ وهل الحياة بمسؤولياتها تُتيح مساحة لألم داخلي إضافي؟

​لعمري، يعيش المرء وفي عقله ذكريات تفتت كل شيء جميل في داخله. وكيف له التخلص من حملها وهو يحملها كغيمة مثقلة بالماء؟ فكلما هبت نسائم الشتاء، فاضت علينا بدموع لا نَعلم سببها، وكأنها تراكم سنين طوال. ولا تشفى حتى تبلل الحجر والشجر وكل من تحتها مرّ. هكذا هو القلب الحزين؛ لا يشفى حتى يفيض ما به. ولكن هيهات له أن يفيض، فيظل سجيناً في داخله؛ فلا العتاب يريحه، ولا النسيان يدركه.

​بسبب ماذا؟ بسبب إنسان خانته الكلمات، فكانت كالرصاص ولكن بلا رحمه 

​إن هذا القلب المثقل يحمل أثقال الآخرين في صمته، ليصبح سجنه هو ذاكرته، وحارس سجنه هو ذلك الأمل الواهي في أن يعود القائل يوماً ليدرك حجم جريمته غير المقصودة.

​إننا نحمل هذه الأعباء لأننا كائنات تأمل لا تنسى. وكل جرح هو دليل على عمق إحساسنا. لكن البقاء على قيد هذه الذبذبات السلبية هو الخيار الأصعب والأكثر إيلاماً. فالحياة لا تنتظر قلب منكسراً، والمسؤوليات الحالية تقتضي التخفف من حمولة الماضي.

الخلاص ليس بالفيضان كما تفعل الغيمة، بل بالنضوب الواعي. لا يكمن الشفاء في انتظار الدموع، بل في قرار التحرر من تأثير الكلمة القاسية. هذا القرار هو اعتراف بأن قوتك الروحية أعظم من لحظة ضعف إنسان آخر. عندها فقط، تتحول تلك التراكمات المؤلمة إلى دروس في المرونة والصمود، ويصبح القلب قوياً بمسامحته، لا بمرارته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نسبيةُ الوجود: شروقٌ يَبني وشروقٌ يَهدم

تأثير الكوبرا.. حين تُصبح الحلول جرحًا في ناصية القلب

الوعي غير المُفعَّل: صراع الإدراك وفخ العادة