وهم الإنجاز
لقد أصبح عصر المعلومات فخاً ناعماً، يحمل بين طياته غواية المعرفة الشاملة قبل الشروع في أي عمل. بدلاً من أن يكون دافعاً، تحول إلى عبء، إذ بتنا نعيش حالة من الاستبصار الزائف؛ نرى البدايات والنهايات، نُحصي المتغيرات، ونُجهّز الحلول لكل عقبة قبل أن تظهر في الأفق. إنها طقوس التخطيط المُقدّسة التي تجعلنا نتنفس الصعداء وكأننا أدينا الواجب. لكن هذا الاستهلاك الفكري المسبق، يخلق فينا شعوراً خادعاً بأننا قد قطعنا بالفعل شوطاً طويلاً، تاركين أجسادنا مُقيدة في مقاعدها.
تعلمنا أن نفكر برَوِيَّة، أن نُقلّب الأمر على كل وجه، كيف نسير الخطى وكيف نُبصر الأنوار ومن أين تشع، حتى أصبحنا نسأل عن أدق التفاصيل في زمن بات كل شيء فيه ممكناً ومعروضاً على طبق من فضة. وأهون ما يكون أن تُشاهد مئات الإجابات والمقارنات والتحليلات على سؤال واحد، حتى تمل وتصل لمرحلة التُخمة من الآراء والمعلومات السطحية. بل ربما تأخذك هذه التفاصيل الدقيقة إلى متاهات وأماكن أخرى لم تكن تفكر بها أصلاً، مُبعِداً إياك عن خطوتك الأساسية.
وما أشبه أحدنا في هذا العصر بطائر يطير بأفكاره في سماء الخيال، يُحلِّق عالياً في برج من التخطيط والتوقعات المسبقة. تتحرك مشاعره حزناً وفرحاً، خيبة وأملاً، وهو ما زال جالسًا في مكانه، لا يبرح مكانه في انتظار أن تَنتهي هذه الرؤيا التي نسجها من خياله المحموم. وحين تكتمل الصورة الذهنية، نشعر وكأن ما كان ينوي القيام به قد تمّ بالفعل وأُنجِز، فنُصاب بالفتور. عندها، لم يعد لديه شغف للعمل؛ فالإنسان لا يحب تكرار ما عاشه في عقله، وانطفأ كل شيء بداخله بسبب السَلْبِيّات التي توقعها بالتفصيل، وبسبب الإيجابيات التي لم تَنَل رضاه المفرط.
إن الخلاص من هذه الدائرة المغلقة من الاحتراق الداخلي المسبق يكمن في إعلان حالة من العصيان المُتعمَّد على الكمال. يجب أن نُدرك أن وهم الإنجاز الذي استنفد طاقتنا لن يتبدد إلا بـ الفعل البكر، ذلك الفعل الناقص، المليء بالعيوب، لكنه حقيقي وملموس. لا الشغف ولا اليقين يسبقان العمل؛ بل هما نتاج له. وعندما نخلع رداء المحلل والمُتنبئ لنرتدي ثوب العامل والمُجرّب، سنكتشف أن الفكرة لا تكتسب قيمتها إلا في حيز التنفيذ، وأن الخطوة الأولى، مهما كانت متعثرة، هي وحدها القادرة على كسر سحر التوقعات المُثبطة وإعادة إشعال جذوة الرغبة في المضي قدماً.
تعليقات
إرسال تعليق