متلازمة عدم الاستحقاق: الداء الجديد للمظلومين
هل تعيش النفس الإنسانية في سجن صامت؟ ذاك السجن الذي يبدو ظاهرياً كالعيش الطبيعي ("تأكل وتشرب")، ولكنه في الحقيقة دفع لثمن باهظ مقابل الوجود ذاته. كل يوم يمر عليها، تجد نفسها تُدفع إليه، لا كهدية، بل كواجب مقابل "أعمال ثقال تدفع مقابله أيام عمرها". تتحول الحياة إلى قطار الوجود الثقيل، يسير كمسار لتحطيم كل شيء فيها، لتبقى أجزاءً محركة لمنافع الآخرين دون أن يفكروا في كنهها. هذا هو الداء الجديد الذي يرافق كل مظلوم وصاحب حق: متلازمة عدم الاستحقاق. تنشأ هذه المتلازمة عندما تتحول الذات إلى آلة للعطاء الخجول، لا ترتقي أبداً إلى مرتبة أن تُعطي وهي فخورة، بل تبقى في حالة تضحية دائمة، يعيش صاحبها تحت وهم أنه "عالة"، وأنه لا بد أن يكون "الحَمّالة والشَّيالة". هذا الترويض الطويل يُفقده الشعور بأن الخير والجمال قد يأتيه دون شرط. وعندما يأتي "ذلك القلب الجميل" الذي يفتح أذنيه لـ "خيرها وحقها وعمرها الذي يسير"، يأتي الرفض الذاتي الصادم، فتشعر النفس أنها "لا تستحق"، وأنه "لا يليق بها هذا الجميل، هذا الحب الذي يلفح جسدها البالي ويخفف آثار الأيام الطوال". لقد تعودت النفس على المعاناة، لدرجة أن الراحة أصبحت عبئاً ثقيلاً وكسراً للبارادايم القديم الذي رسمته الأيام عليها.
إن هذا القبول المَرَضي للمعاناة هو ما يحوّل الجسد إلى ساحة حرب. فالعقل المشتت ليس أزمة فكرية عابرة، بل هو اضطراب وجودي، يتحول فيه القلب إلى "مضخة للاضطرابات" تعمل بأقصى طاقتها لتبقي على الألم حياً ومستمراً. يختلط الأمر على المظلوم بين الألم والحق؛ فيشعر أن الحفاظ على معاناته هو الدليل الوحيد المتبقي على صدق ما مر به، فيصبح جسده البالي وعقله المشتت بمثابة تذكار دائم للظلم، وكل محاولة لإصلاح أحد المشاعر المضطربة سرعان ما تتبدد ليظهر لها أمر جديد.
هذا الشعور يدفع المظلوم إلى صراع داخلي أشد مرارة، وهو صراع المسامحة ومغالطة التحرر. فمن يتحدث عن السماح والمسامحة يُلقي باللوم على المظلوم مجدداً، لتبدو الذات "سيئة وحقودة" إن لم تستطع أن تكون "صالحة ومسامحة". لكن كيف يمكن المسامحة لمن "جعل قلبها مضخة للاضطرابات وعقلها مشتت"؟. هنا يجب أن نؤكد: لا، لا تسامح، هذا سلوك طبيعي. فالمسامحة القسرية ليست تحرراً، بل استمراراً للظلم على الذات، وإنكاراً لحقها في الغضب والألم. لو كان التحرر مرتبطاً بالمسامحة الفورية، لما كان هناك "يوم الدين" ليأخذ كل ذي حق حقه. لا تسامح من نام هانئاً وأنت تبكي بسببه، ولا تسامح من تركك تعالجين مشاعرك المضطربة ليُفاجئك بأمر جديد.
إن النجاة من هذه المتلازمة تكمن في التكريم الذاتي كمسار للنجاة، حيث يجب أن تتغير القناعات وأن تندثر الأفكار التي رسخت شعور العوز. التكريم يبدأ بإدراك أن قيمة الوجود مُطلقة وغير مشروطة بأي عطاء. الأيام يجب أن تسير كقطار يحول مساره على الدروب وليس على القلوب. وهذا التحويل يحدث عندما نؤمن بحقنا في الخير والاستحقاق، ونستخدم مواهبنا النادرة كأقوى دليل عملي يثبت للذات أننا لسنا "عالة"، بل مصدر قيمة حقيقية لا تُقدَّر بثمن.
تعليقات
إرسال تعليق