الوعي الخفي بين الوجود والعدم: رحلة فلسفية في ظل الغياب
في صمت الليل العميق، حيث تتراقص الظلال بين حدود الضوء والظلام، يختبئ وعي الإنسان كأسرار غير مكتوبة، بين ما نراه وما نشعر به بصمت. هناك، في فضاء الروح الغامض، يلتقي الوجود بالعدم، ليس كمفارقة بسيطة، بل كلغة لا يفهمها سوى من يتأمل في صمت قلبه قبل عقله.
الوعي ليس مجرد إدراك للماهيات المحسوسة، بل هو انعكاس داخلي يتراوح بين الضياع والاكتشاف، بين الحضور الخفي والغياب المتجسد. كل فكرة تولد، كل شعور ينبثق، هو صدى لعدمٍ ما، لم يُسمَّ بعد ولم يُعاش إلا في صميم الذات. أحيانًا، أشعر أن جزءًا مني يعيش هناك، في فراغ لا يُرى، لكنه أكثر حضورًا من أي وجود ملموس.
الوعي في جوهره طبقات متداخلة لا تُرى. هناك وعي ظاهر يُعبَّر عنه بالكلمات، ووعي خفي يراقب بصمت ما لا يستطيع التعبير عنه. وما وراء الاثنين، وعي كونيّ يتجاوز الذات، يتصل بما لا يُلمس، بما يهمس في صدى الكون نفسه. في هذا التداخل يصبح الإنسان كائنًا يقف على حافة الغياب، يراقب وجوده كما يراقب طيفًا عابرًا بين الحلم واليقظة. كم مرة تساءلت: هل أنا حاضر حقًا، أم مجرد فكرة في وعي آخر لا أعرفه؟
وحين نحاول أن نعبّر عن هذا الإدراك، نصطدم بحدود اللغة. فاللغة، مهما اتسعت، تضيق عن احتواء ما يسكن أعماقنا. نحاول وصف الوجود، فنصف غيابًا. نرسم بالكلمات ظلالًا لا جوهرًا. وربما يكون التعبير عن العدم أصعب من التعبير عن الوجود، لأن اللغة وُلدت في عالم الامتلاء، لا الفراغ. كلما اقتربنا من وصف المكنون، ابتعدت الحقيقة خطوة، وكأن الوعي يرفض أن يُسجن في أبجدية.
الغياب، رغم ظاهره السلبي، ليس نقصًا بل عنصر إدراك. فالأشياء تُدرك بحدودها، كما يُعرف الضوء بظلّه. ما لا نراه، ما نفتقده، يكوّن فينا حضورًا خفيًا. الوعي يتغذى على الفراغ، على المسافات بين اللحظات، على الصمت الذي يفصل بين كلمتين. وربما لهذا تبدو الأسئلة أحيانًا أصدق من الإجابات، لأن الوجود نفسه لا يكتمل إلا بما يغيب عنه.
أتذكر مشهدًا من إحدى غابات إفريقيا، حيث يضع الصيادون أوعية ضيقة الفوهة، يملؤونها بالطُعم لاصطياد القردة. يأتي القرد بحذر، يُدخل يده ليمسك بالطعم، لكن حين يحاول إخراجها، لا يستطيع، لأن قبضته المشدودة تمنعه. لو أنه بسط كفه لنجا، لكنه يبقى ممسكًا بما ظنه مكسبًا. يتخبط في خوفه، يدور حول نفسه، حتى يقع فريسة سهلة.
ذلك القرد ليس سوى صورة للوعي حين يُقيّده الوهم. كثيرًا ما نُحكم قبضتنا على ما نظنه وجودًا أو مكسبًا، بينما هو في الحقيقة قيد. إننا نتمسك بما يؤلمنا لأننا نخاف الفراغ، ونظن أن التخلّي خسارة، بينما هو أول بوابة للحرية.
ربما الوعي ليس دائمًا نافذة على الحقيقة، بل أحيانًا مرآة للوهم. قد يكون حيلةً لتبرير وجودنا أمام العدم، أو قد يكون الخيط الوحيد الذي يصلنا بما هو أعمق من الواقع. كل تجربة، كل لحظة إدراك، هي محاولة لفهم ما لا يُفهم، وصراع بين الرغبة في اليقين وإدراك استحالته. ومع ذلك، ثمة سكينة غريبة في قبول هذا التناقض، في العيش مع الأسئلة دون انتظار إجابة.
الوعي الخفي، ذلك الصوت الصامت بين الوجود والعدم، هو مرآة الإنسان الحقيقية. كل لحظة إدراك، كل شعور بالغياب، كل محاولة للتعبير عن ما لا يُرى، تكشف عن أعماق جديدة للروح. ربما لا يكمن سر الوعي في المعرفة، بل في القدرة على التعايش مع الغموض، على احتضان الغياب دون خوف، وعلى أن نكون شاهدين على أنفسنا، لا قضاة عليها. فالحقيقة، في النهاية، ليست ما نعرفه، بل ما نجرؤ على الإحساس به في صمت
تعليقات
إرسال تعليق