التعافي الوجداني: أزمة اليقين في شفاء الروح
التعافي. كلمة نقولها كل يوم بين الفينة والأخرى لمن نحب، أو حتى لمن نعرف... نُصافح بها أياماً رحلت وأياماً قادمة. فهل فكرنا يوماً حقاً بها؟ هل قُلوبنا وأرواحنا معافاة بالفعل؟ أما عن الجسد، فالآلة البشرية لا تلبث تشعر بالألم حتى تئن وتضجر، فيُجبَر صاحبها على اتخاذ أسرع وأفضل التدابير دون تفكير للحصول على الشفاء والعافية. بينما رُبَّ قلب يئن بآلامه سِنين، وصاحبه يُسكنه بكلمات واهية ومبررات غير مُقنعة، وأحياناً يتجاهله، فيحول أمره للعين التي تؤازره بدموع حارقة تشكي عدم التعافي.
يظن أحدنا أنه لا تعافي من جروح القلوب، وإنما هي قدر يجب تحملها كقطعة أو جزء من القلب حتى الممات. ويظن آخر أنه لا يكون التعافي لأحد إلا إذا حوَّل ألمه لمن كان سبباً في هذا الألم (وهو وهم الانتقام). ويظن... و يظن... والحقيقة لا يمكن قولها بكلمة أو حتى مقال؛ فكل قلب هو حالة، وكل حالة تحتاج لطرق تعافٍ مختلفة عن الآخرى. ولكن بالعموم، حصوله صعب، ونواله مسكوت عنه. 💔
إن صعوبة التعافي لا تكمن في الجرح بحد ذاته، بل تكمن في "عقدة التحديد الزمني"؛ فالعقل البشري، المُبرمَج على اليقين، لا يملك أفقاً زمنياً لشفاء الروح كما يملكه لشفاء الجسد. فبينما يستغرق كسر العظم ستة أسابيع، قد تستغرق تداعيات كلمة عابرة ستة أعوام. لهذا، يتحول الألم الروحي إلى عبء وجودي مُزمن، يتخذه البعض "هوية" أو "درعاً" يبرر به جموده اللاحق.
رب كلمة عابرة أو موقف بسيط يكون سبباً لفتح جرح عميق ظن صاحبه أنه قد تعافى منه. فهل حقاً يخدع المرء بنفسه ولا يعلم حقيقة التعافي؟ ولا يعلم أن هناك بين جنبيه شيئاً ينزف ببطء، كـ "جرف" في أرض لا يلبث أن يقترب منه حتى يُوديه إلى ما لا تُحمَد عقباه؟ وهو لا يدري كيف استطاعت تلك الكلمات والمواقف إعادة الشعور، وأين كان الشعور مختبئاً أصلاً؟ فبؤس لتلك الكلمات التي تؤدي لذلك الجرف، أم بؤس لقلب سقيم بين جنبي صاحبه؟
هذا الجمود يتبلور في ثلاث مفارقات فلسفية تمنع التعافي الحقيقي: المفارقة الأولى: تضخيم القيمة (Over-Valuation): يرفض صاحب القلب المجروح التعافي لأنه يظن أن "قيمة الجرح" أعلى من "قيمة الشفاء". يرى أن التعافي هو خيانة للتجربة أو نكران للطرف الذي سبَّب الألم. إنه يختار أن يظل سجين الذاكرة لكي يظل "الشخصية الدرامية" في روايته الخاصة، بينما التعافي يتطلب منه أن يصبح "الشخصية المتحررة". المفارقة الثانية: عبودية القصاص: الاعتقاد بأن التعافي مرتبط بتحويل الألم (الذي هو طاقة سلبية) نحو مصدره. هذا وهم "الانتقام المُتبادَل". الحقيقة أن التعافي هو عملية فصل الطاقة؛ تحرير الذات من حبل الـ "سبب والمسبِّب"، وإعادة توجيه الطاقة نحو الداخل. المفارقة الثالثة: التعافي السطحي (Digital Healing): في عصر السرعة، يسعى القلب لإيجاد "حلول تيليغرامية" أو "إجابات إنستغرامية" سريعة للآلام العميقة. هذه الحلول السطحية تعمل كالمسكنات؛ تخدّر الشعور بالألم، لكنها تترك النسيج الوجداني ممزقاً دون خياطة حقيقية. 🤯
التعافي، إذاً، ليس غياب الألم، بل هو القدرة على عيش حياة ذات مغزى رغم وجود الندبة. إنه ليس قدراً يجب احتماله حتى الممات، بل هو قرار وجودي يتطلب إرادة عُليا. التعافي الحقيقي يحدث عندما يقرر الإنسان أن يستثمر طاقة المعاناة في بناء ذاته الحالية، بدلاً من إهدارها في تحليل ذاته الماضية. هو إدراك واعٍ بأن قيمة الإنسان لا تُقاس بعدد جروحه، بل بقدرته على صناعة النور من تلك الجروح. لذا، فإن التعافي هو الفعل الأسمى للوعي المُفعَّل؛ التوقف عن الاستجداء العاطفي من الماضي، والبدء في بناء المستقبل بقلب مُتَقَبِّل للألم كجزء من عملية النمو. هو الإعلان عن أن الروح، أخيراً، قد استعادت سيادتها على الذاكرة المُؤلِمة. ✨
تعليقات
إرسال تعليق