العقل العصامي: فلسفة البناء الذاتي والتحرر من "وهم الأمان
"
العقل العصامي. سمعنا عن إنسان عصامي... إنسان بنى نفسه بنفسه... كان تحت الصفر وصار في أماكن مرموقة. وسمعنا عن فن التحدث والمحاورة وعن الذكاء الاجتماعي. أتساءل: إذا كان لا توجد مدارس وجامعات لتعليم هذه الفنون إذا صح التعبير، فوجدت أن الأساس ليس المال ولا البيئة ولا حتى الجامعات، إنما هو النماء العقلي للإنسان. وما سبق ذكره ما هو إلا مجرد عوامل قد تُسهم في تطور هذا النماء. لكن هل كل من دخل الجامعة... أو تلقى أي علم في أي اختصاص حصد نفس النتيجة؟ لا والله. ترى أحدهم عاش من الأيام دهراً ومازالت خبرته بالحياة صفراً.
فلا يفلح إلا من كان عصامي الفكرة؛ أي يبحث بدون كلل أو ملل عن أي تطور يسوقه إلى النجاح. فلا أرى عقله إلا بناءً يسارع في وضع لبناته لبنة لبنة، أو جسراً يعبر هو ومن يكون لهم قدوة إلى ضفة النماء.
يُحكى أن حكيماً وغلاماً كانا قد تاها في قرية، وأوصلتهما خُطاهما لبيت متواضع به عائلة فقيرة رثة الثياب ضعيفة الحال. أقاموا عندهم بعض الوقت حتى يستدلا الطريق. فسأل الحكيم عائل البيت: "كيف تطيب لكم هذه الحياة؟" فأجاب: "نعيش على رزق بقرة صغيرة، فما تُدِره من حليب نقتات من بيعه". وما إن خرج الحكيم والغلام من عندهم حتى طلب الحكيم من الغلام التخلص من البقرة. ففعل الغلام ومضيا في طريقهما. ومرت الأيام والسنون، وصدف أن مر الغلام أمام نفس المنزل فرآه منزلاً جميلاً بحديقته الغناء، فظن أن أصحابه قد رحلوا. وعندما زارهم تفاجأ بنفس الأشخاص، فسألهم عن حالهم وكيف تحسن؟ فأجاب عائل البيت: "كنا نقتات على رزق بقرة، ولكن البقرة اختفت، فما كان لنا إلا أن نمضي ونعمل ونبحث حتى وجدنا مصادر رزق أغنَتنا عما كنا فيه".
التحليل الفلسفي: بقرة اليقين
إن قصة البقرة الصغيرة ليست قصة عن الفقر أو الغنى، بل هي تجسيد فلسفي لـ "وهم الأمان" أو "بَقرة اليقين". الفقر الحقيقي لم يكن في الموارد، بل في العقل غير العصامي الذي استسلم لـ "حل وحيد ومريح". هذه البقرة تمثل الحلول المؤقتة والفكرة القديمة التي تمنعنا من البحث عن الأفضل بحجة أنها "كافية".
العقل الذي يرتكن إليها يصبح أسيراً لمصدر رزق يمنعه من اكتشاف قدراته الحقيقية. هنا يكمن الخطر: فالإنسان يصبح متمسكاً بالمنطقة الرمادية، الوظيفة المريحة أو العلاقة المستقرة، التي تمنعه من التطور. لم يبدأ النماء عندما وجدوا مصادر رزق جديدة، بل بدأ عندما اتخذوا قراراً وجودياً بالبحث بعد أن سُلبت منهم "البقرة". هذا هو جوهر عصامية القرار.
إن العقل العصامي هو الذي يدرك أن الأمان الحقيقي يكمن في مرونته وقدرته على إعادة بناء ذاته، لا في استدامة المورد الخارجي. إن الفرق بين من عاش دهراً وخبرته صفر، ومن بنى نفسه، هو الفرق بين من يحافظ على بقرة قديمة يخشى ضياعها، ومن يقتل بقرة اليقين داخله ليبدأ رحلة البحث عن المجهول.
العقل العصامي هو الذي يرفض أن يكون رهينة لحل واحد. هو العقل الذي يستوعب أن أفضل مصادر الرزق وأعمقها لم تُكتشف بعد، وأنها تظهر فقط عندما تُغلَق الأبواب المألوفة. هو عقل لا يضجره أن يُعاد بناءه كل يوم؛ بل يراه واجباً مقدساً. أن تُقتل "بقرة اليقين" داخلك، هو أول وأشجع خطوة نحو تحقيق السيادة الكاملة على مصيرك الفكري والوجداني. هذا هو تعريف العقل العصامي في أبهى صوره. ✨
تعليقات
إرسال تعليق