الفراق قطعه النسيج وصيحات الوجدان
لقد زاد الحديث على من يريد الرحيل فليرحل، ومن أراد المغادرة فنحن غير آبهين به. وأصبح الأغلب يتعامل مع الأمر وكأنه صفحة قد طُويت، أو ورقة قد ُمزقت، أو ما شابه ذلك.
فأين الحديث عن ذكريات قد صُنعت من أيام ولحظات لا تُعاد؟ وأين الحديث عن أحزان قد سكنت على أثر هذا الفراق؟ هل حقاً يكون الفراق سهلاً إلى هذه الدرجة، حتى لو كان لابد منه؟
نحن لا نعمل على أزرار لتكون وسيله لنمحو ما نشاء وما يؤذينا، ونترك ما يسعدنا. إنما هي حقيبة لا يمكن فصل مكوناتها. هي قطعة نسيج ملونة أو غير ملونة؛ إما أن نقبل بها جميعاً، أو نفك خيوطها فلا تعود تدفئ ولا طائل من وجودها. فإن عدنا وقمنا بترقيعها بما تطيب له أنفسنا ، فلا تكاد تصل لكل ما نريد. فإما أن تكشف الرأس، أو الأقدام، أو ربما تفتح نافذة على القلب فتسرب آهات وأحزاناً وذكريات كانت مبهجة ومفرحة تحولت إلى آلام.
كيف تتحول كل تلك الضحكات والثرثرة إلى ندم ووجع؟ وكيف تتحول لحظات الوفاء التي كانت تغمر القلب إلى لحظات جفاء تعتصر الفؤاد؟
وبالنهاية، كل منا يرى الموضوع من زاويته. ففي الخريف إذا سقطت الورقة من على غصنها، عدَّها الفصل وفيه له . وإن تمسكت، عدَّها الورق خائنة.
هنا يكمن الصدق القاسي للوجود: الذاكرة لا تقبل التجزئة. إن الذاكرة ليست خزانة يمكننا ترتيبها، بل هي نسيج حي لا يمكن بتر جزء منه دون إحداث نزيف في الروح. كل محاولة لـ "نسيان" الجزء المؤلم هي محاولة لتمزيق النسيج بأكمله، مما يفقد النسيج وظيفته الأساسية (التدفئة أو الحماية).
إننا نعيش في عالم يتغنى بالفراق ويقرع الطبول على فشل العلاقات، لكن هذا التغني ليس سوى محاولة يائسة لتجاهل الفاتورة المدفوعة.
فلنجد أعذاراً، وإن لم نجد، فلعمري تضميد جروحاً من طعنات اللا رجوع التي لابد وأن تُؤلمنا، وتأخذ من عداد أنفاسنا ما تأخذ. وها قد تم دفع الفاتورة بالفعل؛ فلا تتغنوا بالفراق بل لنبحث عن التخطي والتعافي وهو الحل الطبيعي بعد الالم . إن الشجاعة الحقيقية ليست في إعلان التجاهل، بل في الاعتراف بأن كل خيط في النسيج ترك أثراً، وأن الرحيل ليس سهلاً أبدًا، لكن الثبات على الحقيقة بسوء الاختيار منذ البدايه هو عزاءنا الوحيد.
تعليقات
إرسال تعليق