ثِقَةُ المَوقِف: شِفرَاتُ الذَاكِرَةِ وَأَسْرُ التَّطَبُّع ​


​"ثقة الموقف"... موقف أو مواقف عديدة تجعل منا نكون أفكاراً لا تلبث إلا أن تتحول إلى قناعات عن أشخاص، وربما أشياء. وكأن لكلِّ أحدٍ بصمة في ذاكرتنا، وله شِفرة نعرف بها كيف يفكر، وكيف يتصرف، وكيف ممكن أن يتصرف.
​فإذا أخطأ هذا الشخص "الحكيم" (الذي وضعنا له شفرة الثقة)، ربما نحتار كيف نبرر له هذا الخطأ ونجمل تصرفه، كما نفعل مع أي شيء نحبه. ليس لشيء، لكن لأن البصمة والشفرة لا تسمح لنا بقبول هذا الخلل. فالموضوع إذاً يكمن في أنفسنا وليس في ذات الآخرين.
​والعكس بالعكس؛ إن صدر عن آخر (غير موثوق به) تصرُّف جيد، لا نلبث نبحث أيضاً عن مبررات تجعل من هذا السلوك بمعزل عنه وعن طبعه وأخلاقه.
​الحق يقال إن الطبع يغلب التطبع، كقصة الضفدع والعقرب حين طلب العقرب من الضفدع نقله إلى الضفة الأخرى. فأجابه الضفدع: "كيف آمن لك وأنت الغدّار؟" فأجابه: "إن لدغتك نموت سوياً في الماء". وفعلاً في الطريق لدغه وقال له: "هذا طبعي، رغماً عني"، وماتا سوياً.
هنا يكمن السؤال الفلسفي العميق: هل ينطبق هذا على الإنسان؟ أم نُظلم أحداً من موقف أو أكثر، ولا نستطيع تغيير هذه البصمة (الشفرة) عند الناس؟
​إن مشكلة الإنسان تكمن في إدمان اليقين. نحن نسعى لبناء الشفرات والبصمات لأنها تريحنا من عناء التفكير المستمر والتقييم اللحظي. هذه الشفرة بمثابة عقد نفسي غير مكتوب، يحدد كيف سنتعامل مع الشخص دون الحاجة إلى إعادة قراءة نواياه في كل مرة.
​عندما يصدر عن "الحكيم" خطأ، أو عن "الغدَّار" صواب، فإن هذا يهدد يقيننا . وعليه، نحن نُضطر إلى:
• ​تبرير الخطأ (للمحبوب): فنقول: "لقد كان موقفاً عابراً، هذا ليس طبعه"، لنحمي العقد النفسي الذي بنيناه على ثقة.
• ​تبرير الصواب (للمكروه): فنقول: "هذا تكتيك منه، أو مصلحة مؤقتة، هذا ليس طبعه"، لنحمي العقد النفسي الذي بنيناه على حذر.
هل يُظلم الإنسان؟ نعم، يُظلم. الظلم هنا مزدوج:
• ​ظلم الآخر: حين نحكم عليه بنهاية مسبقة بسبب شفرتنا، ونرفض أن نرى التطوُّر والتغيير في "النسيج البشري".
• ​ حين نُقيّد أنفسنا داخل دائرة مُغلقة من الثقة والشك، ونُفوّت فرصة اكتشاف حقيقة الآخرين بعيداً عن أسر "شفرة الذاكرة" المُصنّعة لدينا. إننا نُدمن اليقين لأن الخوف من الخسارة أو خيبة الأمل الجديدة أكبر من أي متعة اكتشاف. فـ "شفرة الموقف" هي في جوهرها أداة حماية ذاتية، ندفع ثمنها تقييد قدرتنا على الرؤية.
​قصة العقرب والضفدع هي قصة الثبات على الطبع المادي غير الواعي. أما الإنسان، فجوهر وجوده هو الوعي والقدرة على التطوُّر. الشجاعة لا تكمن في الحفاظ على شفراتنا القديمة، بل في امتلاك المرونة الذهنية لـ إعادة برمجة الشفرة كلما أظهر الواقع حقيقة جديدة، لأن التغيير هو الحقيقة المطلقة الوحيدة في حياة البشر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نسبيةُ الوجود: شروقٌ يَبني وشروقٌ يَهدم

تأثير الكوبرا.. حين تُصبح الحلول جرحًا في ناصية القلب

الوعي غير المُفعَّل: صراع الإدراك وفخ العادة