شبع الروح وجوع الجسد: فلسفة السحور بين اللقيمات والذكر الواعي
وجبة سحور:
بعد أن حلَّ الظلام، والتثاؤب علا على الابتسام، ندهت الأم مسرعة لتنادي أطفالها إلى مائدة السحور. كانت خائفة من مرور الوقت دون تناول الطعام، وكأن استغلال الوقت باللقيمات أهم من استغلاله في أي شيء آخر.
ألا ليت شعري لو أن الإنسان يعي حقيقة ما يعيش. يا تُرى، من يُشبع الآخر؟ هل الجسد يُشبع الروح، أم الروح تُشبع، فيشبع لشبعها الجسد؟ ربما جُعل شهر رمضان ليتحقق هذا المعنى السامي الذي قد لا نصل إليه، على الرغم من محاولة إقحامه في عقولنا.
لقد جعلنا من رمضان شهر مآدب وطعام. نمضي النهار بتحضير الفطور، ونمضي الليل في تحضير السحور، وكأن أجسادنا لم تشبع هذه السنين الطوال من تحضير واعتناء. وفي المقابل، نترك هذه الأرواح النحيفة قابعة في زاوية الغرفة كيتيمة، ليس لها من يعطف أو يَحِنّ، فتنحني غير مستعطفة أحداً لأن فيها من العزة والرقي ما كفاها السؤال.
يقولون في آخر الزمان عندما يحبس الأعور الطعام عن المؤمنين، فالتسبيح والتهليل والذكر يشبعهم. لماذا في آخر الزمان فقط؟ ونحن نرى الناس دائماً جياعاً. إن شبعت الروح، أيكف الجسد عن طلب الطعام؟
ربَّ سارٍ وذاكرٍ مُدَّكِر لا يطلب جسده الطعام كثيراً، بل يشعر بشبع مستمر، ويقتات بما يُقيم صلبه فقط. وهذا ما قصده الرسول (صلى الله عليه وسلم) بـ "لقيمات". فحتى يتحقق معنى اللقيمات، يجب أن يكون بقربها الشبع الروحي. وإلا، لن يكتفي الجسد بأطايب الطعام وكثرته مهما أكل، ويظل باحثاً عن المزيد.
أهذا هو الذكر الذي لم يُعلمونا إياه، ولم يشعرونا بقيمته يوماً إلا بكلام قليل؟ الذكر الذي تنتصب له شعيرات الجسد احتراماً وإجلالاً عندما يدخل لأعماق القلب ويتجاوز اللسان. فهل نحن عطشى يوماً للتسبيح والحمد والتهليل؟
استجاب الجميع للنداء إلى وجبة السحور متبسماً. ولا أحد يدري عن الآخر كيف أمضى ليله، وكأن الليل هو ذلك المجهول الذي يسكن في كل إنسان، بل هو ذاته المختفية بالنهار. وكأنه الرداء الأسود الذي يخلعه الليل على الأجساد كالرداء الأحمر على الثيران. أما الليل، فيباشر معنا ذلك في ردائه الأسود وهدوئه المُحدِق، ليستدرج ما فينا إليه قائلاً: "هيت لك أيها الإنسان، أخبرني ما بك من أشجان سأحفظها لك إلى أن يطلع النهار، وأعدك أن لا أُحدِّث بها إنسان".
فيختلي بك أيها الليل المختلون، وقد فاز المسبحون والحامدون والمكبرون. وكلٌّ له لوحته، ورسمة قلمه، وصفحته التي لا تختلف كثيراً عن صحنه الذي سيأكل منه.
وهذا ليس حال الجميع؛ فمنهم من كان شاهداً للتلفاز على قصص وهمية، ومنهم من كان يُسامر أصدقاءه ويُمازحهم. ومنهم من سُكبت عليه نفحة إيمانية من نفحات الرحمن، كعطر بُثَّ في الجو، فلا يكاد يعرف مصدره ولا يكاد يغادره عبق رائحته الزكية من نفسه وروحه.
ومنهم من غرق في بحر الظلام، فلا تدري عنه في أي بحر يسبح، وهل أغرقته نفسه أم استطاع النجاة منها؟ وهل الصراع الذي كان به قد أنهكه وأتلفه، أم تعادلا في عراك يومي تشهده النفس بالليل وتتجهز له بالنهار؟ فقد جَهِدَ من جدال هذه النفس السقيمة وإقناعها، ولكنها لم تيأس من تعذيبه. فيُدلِج في أعماق نفسه ليُرتب أوراقه المبعثرة، ويتلقى المكاتيب المرسلة من قلب وعين، من روح وجسد.
ومنهم من نام قرير العين هانئاً. وليس لتقر عين أحدهم يجب أن تجتمع الدنيا بأسرها، فيكفي أن يكون لديه من يُحب وله من يُحبه، حتى يستطيع السهر بهدوء وصفاء، فقد اجتمعت عنده الروح والجسد في مكان واحد، وتحققت فطرة الله التي فطر الناس عليها.
يا لها من وجبة اجتمع عليها الناس، ومن نفس الصحن يأكلون! ولكنه الشيء الوحيد الذي به يشتركون. ولكل منهم صحنه الخاص الذي غَرَفَ منه ما غَرَفَ. إن علت الابتسامة فاك أم الانزعاج، فعليك إكماله؛ إن كان مرّاً وعلقماً فهو سواء.
ورب أحدهم لا يحتاج إلى ماء وهو يتناول صحنه، فيكفيه أن يضع بقربه كأساً فارغاً ملأه بدموعه عند كل لقمة وعند كل غُصَّة، فيرتوي بدموعه، لأن عليه إكمال ما بدأ به، وعليه أن يبتسم أيضاً. وهل الحمد يتناقض مع دموع العين والغُصَّة في الحلق؟
فسيدنا نوح عندما ضاق ذرعاً من قومه، غاضبهم ولم يغاضب ربه. وهو يعلم أن الأمر كله لله. هذا يؤكد البشرية المحضة بحدود التحمل والطاقة.
طعامنا وشرابنا مِلكٌ لبطوننا، وما عداه، نحن مِلكٌ له، لا نستطيع تملكه. فهل الروح تحتاج لكلمة طيبة إن غابت عنها تألمت، أو تحتاج لسجدة سحر إن بعدت عنها اشتاقت؟
نعم، لربما حاجات الروح أكثر بكثير من حاجات الجسد. وجبة السحور قائمة عند السحر، تروي وتشبع بضع ساعات من نهار صبر طويل، وغض بصر، وشتات فكر، وتصبير قلب. وتنتهي وجبة السحور الفاخرة، ويمضي كلٌّ إلى سريره حاملاً ببطنه بضع لقيمات، وفي عقله آلاف الكلمات، وفي قلبه الكثير من الأمنيات لإشراق شمس يوم جديد. المهم أنه يوم آخر وكفى.
تعليقات
إرسال تعليق