الصمت: حصن النسيان وقوة التجاهل

 


​الصمت... هو ذلك الشيء الذي كنا نظنه ضعفاً أو قلة حيلة. فهل هو حبس للماضي بين متاهات الذاكرة؟ أم هو مكابرة على كلمات ربما عندما تُحكى تفتح أبواباً لطالما حاولنا إغلاقها؟

​ربما الصمت هو العلاج لكل ما ذُكر. فعند الحديث، تجوب الكلمات مواقف قد مرّت، ولا يمل العقل من ربطها ببعض، فترى الموقف تلو الموقف، وكأنك تمسك بثوب خُيّط بصعوبة، ولا تلبث أن تنزع تلك العُرى واحدة تلو الأخرى بحديثك عن سبب خياطتها.

​ودون أن تشعر، يذهب الخياط ويُفتح الجرح من جديد وكأنه حصل الآن، فلا أنت تستطيع خياطته مرة أخرى، ولا هو يتوقف عن الأنين. فما أبشعها من فكرة وما أوسعها من نصيحة: "فضفض عن نفسك وتكلم!" فيسمع السامع ويمضي، ويعود المتحدث لخياطة وجروحه...

​فدعوا المجروح ينسى، ولا يتيسر النسيان إلا بالصمت والتجاهل. فذكر الشيء يزيد التركيز [عليه].

​إن الصمت هنا ليس هروباً، بل هو إعلان الهدنة مع الجرح. إنه الإدراك المؤلم بأن جرحك هو ميراثك الخاص، لا يجب أن يُصبح مادة سرد سهلة لعابري المشاعر. إنه يمنح الروح السكينة اللازمة لتتخلى عن فكرة أن كل كلمة تقال يجب أن تُقابل بتعاطف.

​الصمت يصبح حضناً دافئاً للذاكرة المتعبة؛ يوقف سيل الصور والأصوات، ويسمح للقلب بأن يركز طاقته المتبقية لا في تذكر الألم، بل في نسيان شكل الخيط. وحينما يلتزم المجروح بهذا الصمت العميق، يبدأ الجرح في التجمد بصمت مهيب، ويتحول إلى ندبة؛ شاهدة على ما فات، وليست جرحاً ينزف أمام الجميع. عندها، يصبح الصامت هو القوة ذاتها، لأنه اختار أن يغلق الباب على ماضيه، ليمنح روحه فرصة لأن تنام بأمان بعيداً عن ضوضاء الحكي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نسبيةُ الوجود: شروقٌ يَبني وشروقٌ يَهدم

تأثير الكوبرا.. حين تُصبح الحلول جرحًا في ناصية القلب

الوعي غير المُفعَّل: صراع الإدراك وفخ العادة