القوة النفسية
ليست مجرد مصطلح عابر يتردد في المواقف الصعبة، بل هي السؤال الجذري الذي يحدد مسار حياتنا.
لماذا نرى إنساناً كغصن مهزوز تنهال دموعه من كلمة أو موقف، ونرى آخر كشجرة صلبة متينة رغم تسلق المتسلقين وعواصف الأقارب والأباعد، وأحياناً طعنات جارحة؟ يظل ثابتاً في مكانه، بل وقادراً على العطاء كتلك الشجرة الثابتة... إنما هي الجذور! فجذر شجرة قوية ليس كجذر غصن هشٍّ تعوّد الاستسقاء من غيره والاتكاء عليه. فكل منا يختار ماذا يكون، دون عتب على الظروف وقهر الأيام.
إذاً، القوة النفسية ليست هدية إلهية مُطلقة، بل هي فنّ هندسة الذات.
هي ليست غياب للألم، بل هي قدرة الجهاز المناعي الروحي على تحويل الألم إلى طاقة دافعة. هي ذلك المركز الثابت داخلنا الذي لا يهتز حتى عندما تنهار الدوائر المحيطة بنا. في هذه المقالة، سنغوص في كيفية تقوية الجذور الثلاثة التي تشكل دعائم النفس: الوعي بالجذور (العقل)، ومرونة الساق (الروح)، وثبات الأغصان (السلوك)، وكيف نُحوّل الغصن الهش إلى شجرة قادرة على الصمود والعطاء
الجذر هو الجزء غير المرئي، وهو الذي يحدد قدرة الشجرة على مواجهة الجفاف والعواصف. في حياتنا، جذورنا هي أفكارنا ومعتقداتنا العميقة. القوة تبدأ هنا:
• فهم الـ (لا سيطرة): أكبر استنزاف للطاقة النفسية هو محاولة السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه (آراء الناس، الظروف، الماضي). القوي نفسياً يركز طاقته على استجابته هو للموقف، وليس على الموقف نفسه.
• تصحيح "التحيز السلبي": عقولنا مبرمجة على تذكر السيئ والتركيز عليه. الوعي بالجذور يعني تدريب العقل على البحث عن الإيجابيات الصغيرة التي تثبت قدرتنا على التجاوز.
• بناء قناعة "الاستحقاق": الشخص القوي يعي أنه يستحق الأفضل، وأن الصعاب هي مجرد اختبار وليست حكماً نهائياً على قيمته الذاتية.
الساق هي مرونة الشجرة أمام الريح. الشجرة الصلبة التي لا تنحني هي أول من ينكسر. القوة النفسية تكمن في المرونة العاطفية والروحية التي تسمح لنا بالانحناء دون الانكسار:
• فن التسامح الداخلي: التسامح هو إطلاق سراح سجين، ليكتشف المُسامِح أنه هو السجين. التخلص من "عبء الذبذبات غير المرئية" للحقد والضغينة يحرر الروح من عبء ثقيل لا يخدم إلا الماضي.
• التعافي لا يوجد شخص قوي لا يحزن، لكن القوي يخصص وقتاً للحداد على خسائره، ثم يغادر مساحة الضحية بسرعة، ليتحول إلى بطل رحلته.
• الاعتماد على الإيمان بأن هناك قوة أكبر (الله) تعمل لصالحك، يمنحك دعماً لا يوفره الاتكاء على البشر.
الأغصان هي سلوكياتنا الخارجية، وهي دليل على صحة الجذور والساق. هذا هو التطبيق العملي للقوة النفسية:
• العطاء بلا انتظار: الشجرة تثبت مكانتها ليس بمنع الآخرين من التسلق، بل بتقديم الثمر والظل لهم. القوي نفسياً يمارس العطاء لأنه نابع من فيض داخلي وليس انتظاراً للتقدير.
• تحديد الحدود الصحية: القوة ليست في الصراخ أو العدوانية، بل في القدرة الهادئة والحازمة على وضع حدود واضحة تمنع "عواصف الأقارب والأباعد" من تدمير مساحتك الآمنة.
• الروتين الروحي ك ممارسة طقوس بسيطة (تأمل، صلاة، كتابة) يومياً يرسخ جذورك، ويجعل يومك ثابتاً مهما كانت تقلبات الخارج.
"لا تكره شيئاً اختاره الله لك، فعلى البلاء تؤجر، وعلى المرض تؤجر، وعلى الفقد تؤجر، وعلى الصبر تؤجر..." - الإمام الشافعي.
في نهاية رحلتنا مع فهم القوة النفسية، نكتشف أنها ليست درعاً فولاذياً يمنع الألم من الوصول إلينا، بل هي بوصلة داخلية توجهنا للصمود رغم كل العواصف. إنها قرار يومي بأن نتحمل مسؤولية تكوين ذواتنا، وأن نختار أن تكون جذورنا عميقة ومتشابكة في أرض الثقة الداخلية، بدلاً من التعلق بالآخرين.
تذكر أن بناء القوة النفسية ليس حدثاً، بل عملية مستمرة. كل عثرة هي فرصة لتعميق جذور الوعي لديك، وكل نجاح هو ثمرة لثباتك. اختر أن تكون الشجرة التي يلوذ بها الآخرون، لا الغصن الذي ينتظر السقوط
تعليقات
إرسال تعليق