العائلة العمق والبؤرة

 


​العائلة، هي ذلك الأساس المتين والبنيان الذي يُفترض أنه فولاذي برصانته وعمقه، فعمقه كعمق تجويف العين بين الحاجبين. ولكن للأسف، ليس لهذا العمق أهداب تحميه من شوائب وأخطاء، ولا حاجبان يحميانه من قطرات ماء أو شيء يصيبه بضرر. فهذا العمق لا يحميه إلا حُسن التصرف والحكمة، وهذا للأسف جلّ ما تفتقده الأُسر. فيظن الأبوان أن خطأهما مغفور، وكلامهما يمر بالأذهان كسحابة صيف باردة تعكّر الجو الحار، لكنهم للأسف لا يدركون أن أثر ما يفعلونه أدهى وأمرّ من سهام تصيب هذا العمق في مقتل. ولا يزال النزيف يمضي عبر أيام ومواقف حتى يتحول العمق إلى بؤرة ألم. 

أثناء تدفق الدم الغزير المحب ليصل لوريده ويسقيه، يصاب بخثرات! ما هي إلا نقاط ما استطاعت كثافة الدماء التجاوز عنها، فتراكمت بسبب من لا يدرك معنى الإخاء، أو أبوة الأبناء، أو أمومة الدفء. أو ربما يُدرك، ولكن لا يبالي... يصعّب هذا التراكم تدفق الدماء، ليضعف قلب المحبة الرابط لهذه العائلة

​فلا تعني  العائلة دماءً متشابهة، ولا جلوداً تماثلت فيها الألوان، بل تعني أرواحاً تآلفت، وعقولاً تفكر لصالحها، وهمماً تُناشد خيرها... وإلا، فلا دماء تجمع ولا ألقاب تثبت في شهادة القلوب، وكل ما يبقى... هو سؤال عن الحال كعابر سبيل قد مر من هذا المكان، وكأن شيئاً بينهم ما كان.

​كم هو مؤلم أن يكون أقرب الناس إليك أبعدهم عنك شعوراً، وأن تجد نفسك تحمل كل هذا الحنين إلى دفء لم يعد موجوداً!

هذا هو ثمن العائلات التي تخلت عن دورها كـ "سقف" يحمي، واكتفت بدور "الجدران" التي تفصل. فيصبح الأفراد غرباء، يتنقلون بين جدران المأوى بحثاً عن خيط واهٍ من التعاطف المفقود، يتساءلون في صمت مرير

 أين ذهبت خريطة الدماء؟ وأي أرض هجرتها تلك الأرواح المتآلفة؟ تلك هي اللحظة التي تدرك فيها أن أغلى ما فقدته لم يكن شيئاً مادياً، بل كان الأمان المطلق، ومرسى الروح الذي كان من المفترض أن لا يميل.

​أليس من المفارقات القاسية أن يكون مصدر الجرح هو ذاته مصدر الأمان المفترض؟ النزيف لا يتوقف لأنه ليس نزيف دم، بل هو تآكل بطيء للثقة وذبول صامت للأمل، يترك في الذاكرة ندوباً لا تُشفى، بل تتعمق مع كل ذكرى جميلة كانت زائفة أو مع كل كلمة حنان أُلقيت في غير موضعها. تتحول القصص المشتركة إلى سلاسل ثقيلة، يجرها الفرد خلفه، يتمنى لو أن هذا البنيان لم يكن فولاذياً أبداً، لكان انهياره أسرع وأقل ألماً، بدلاً من هذا التصدع البطيء الذي يجعلنا نعيش في حالة حرب داخلية دائمة، نحارب فيها صورة الأمس وحقيقة اليوم.

​عندها، يدرك الجميع أن العائلة ليست مجرد مكان للعيش، بل هي حالة شعورية تقتضي وجوداً كاملاً، لا نصف حضور ولا غياب مغلف بالانشغال. وإلا، يبقى الكل وحيداً، حتى في قلب الزحام، يطارده شبح البنيان الفولاذي الذي كان، ولم يعد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نسبيةُ الوجود: شروقٌ يَبني وشروقٌ يَهدم

تأثير الكوبرا.. حين تُصبح الحلول جرحًا في ناصية القلب

الوعي غير المُفعَّل: صراع الإدراك وفخ العادة